فصل: فَصْلٌ: (التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.فَصْلٌ: [التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ]:

(يَحْرُمُ تَصْرِيحٌ وَهُوَ) أَيْ التَّصْرِيحُ: (مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ النِّكَاحِ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ) بَائِنٍ إجْمَاعًا، وَمِثْلُهَا مُسْتَبْرَأَةٌ، عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدٍ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك، أَوْ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك تَزَوَّجْتُك، أَوْ زَوِّجِينِي نَفْسَك، لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إذْ تَخْصِيصُ التَّعْرِيضِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّصْرِيحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنَّهُ يَحْمِلُهَا الْحِرْصُ عَلَى النِّكَاحِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ، انْقِضَائِهَا (إلَّا لِزَوْجٍ تَحِلُّ لَهُ) كَالْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُطَلَّقَةِ دُونَ ثَلَاثٍ عَلَى عِوَضٍ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُهَا فِي عِدَّتِهَا، أَشْبَهَتْ غَيْرَ الْمُعْتَدَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَزْنِيِّ، بِهَا وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَإِنَّهَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا.
(وَ) يَحْرُمُ أَيْضًا (تَعْرِيضٌ) وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ (بِخِطْبَةِ) مُطَلَّقَةٍ (رَجْعِيَّةٍ) لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ أَشْبَهَتْ الَّتِي فِي صُلْبِ النِّكَاحِ (وَيَجُوزُ تَعْرِيضٌ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ) لِلْآيَةِ، «وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ مُتَأَيِّمٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْت أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَوْضِعِي مِنْ قَوْمِي» وَكَانَتْ تِلْكَ خِطْبَتَهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالنِّكَاحِ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، (وَ) يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ (بَائِنٍ وَلَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ) (ثَلَاثٍ، وَفَسْخٌ لِعُنَّةٍ وَعَيْبٍ) لِأَنَّهَا بَائِنٌ أَشْبَهَتْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَالْمُنْفَسِخَ نِكَاحُهَا لِنَحْوِ رَضَاعٍ وَلِعَانٍ مِمَّا تَحْرُمُ بِهِ أَبَدًا (وَهِيَ) أَيْ: (الْمَرْأَةُ فِي جَوَابٍ) لِلْمُخَاطَبِ (كَهُوَ) أَيْ: الْخَاطِبِ (فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ) مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ فَيَجُوزُ لِلْبَائِنِ التَّعْرِيضُ فِي عِدَّتِهَا دُونَ التَّصْرِيحِ لِغَيْرِ مَنْ تَحِلُّ لَهُ إذَنْ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ (وَالتَّعْرِيضُ) مِنْ الْخَاطِبِ (نَحْوَ) أَنْ يَقُولَ: (إنِّي فِي مِثْلِك لَرَاغِبٌ، وَلَا تَفُوتِينِي بِنَفْسِك، وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُك فَأَعْلِمِينِي) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّهَا عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهَا، نَحْوَ: مَا أَحْوَجَنِي إلَى مِثْلِك (وَتُجِيبُهُ) تَعْرِيضًا (بِنَحْوِ: مَا يُرْغَبُ عَنْك، وَإِنْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ) وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَإِنْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَمْضِهِ وَ(تَحْرُمُ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مُسْلِمٍ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَلِأَنَّ فِي خِطْبَةِ الثَّانِي إفْسَادًا عَلَى الْأَوَّلِ وَإِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ.
وَ(لَا) تَحْرُمُ خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ (كَافِرٍ) لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ (كَمَا لَا) يَجِبُ أَنْ (يَنْصَحَهُ نَصًّا) لِحَدِيثِ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِأَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِ، وَإِلْحَاقَ غَيْرِهِ بِهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ وَلَا حُرْمَتُهُ كَحُرْمَتِهِ (إنْ أُجِيبَ) (الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ وَلَوْ تَعْرِيضًا إنْ عَلِمَ) الثَّانِي بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ وَإِجَابَتِهِ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ كَانَ مَعْذُورًا بِالْجَهْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِجَابَةِ، فَلَوْ أَجَابَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ جَنَتْ أَوْ أَجَابَهُ الْوَلِيُّ ثُمَّ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ. سَقَطَتْ الْإِجَابَةُ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي إجَابَةَ الْأَوَّلِ جَازَ (أَوْ تَرَكَ) الْأَوَّلَ الْخِطْبَةَ، وَكَذَا لَوْ أَخَّرَ الْعَقْدَ، وَطَالَتْ الْمُدَّةُ، وَتَضَرَّرَتْ الْمَخْطُوبَةُ (أَوْ اُسْتُؤْذِنَ) الْأَوَّلُ (فَأَذِنَ) لِلثَّانِي فِي الْخِطْبَةِ، جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَطَبَ الْأَوَّلُ، وَرَدَّ، جَازَ، وَلَوْ كَانَ رَدُّهُ بَعْدَ الْإِجَابَةِ فَلِلثَّانِي الْخِطْبَةُ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْأَوَّلِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِهِ، لِمَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ «أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (أَوْ سَكَتَ) الْأَوَّلُ عَنْهُ بِأَنْ اسْتَأْذَنَ الثَّانِي الْأَوَّلَ، فَسَكَتَ عَنْهُ (جَازَ) لِأَنَّ سُكُوتَهُ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِ فِي مَعْنَى التَّرْكِ (وَالتَّعْوِيلِ فِي رَدٍّ وَإِجَابَةٍ عَلَى وَلِيٍّ مُجْبِرٍ) وَهُوَ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ فِي النِّكَاحِ إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً بِكْرًا، وَكَذَا سَيِّدٌ، أَمَتُهُ بِكْرٌ أَوْ ثَيِّبٌ فَلَا أَثَرَ لِإِجَابَةِ الْمُجْبَرَةِ؛ لِأَنَّ وَلِيَّهَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ بِهِ لَا بِهَا، (وَإِلَّا) تَكُنْ مُجْبَرَةً كَحُرَّةٍ ثَيِّبٍ عَاقِلَةٍ تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ فَ (التَّعْوِيلُ) فِي رَدٍّ وَإِجَابَةٍ (عَلَيْهَا) أَيْ: الْمَخْطُوبَةِ، دُونَ وَلِيِّهَا؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، فَكَانَ الْأَمْرُ أَمْرَهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُرْوَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إلَى أَبِي بَكْرٍ» رَوَاه الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا مُرْسَلًا. (وَلَا يُكْرَهُ لِوَلِيٍّ) مُجْبِرٍ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِجَابَةِ لِغَرَضٍ، (وَلَا) يُكْرَهُ (لِامْرَأَةٍ) غَيْرِ مُجْبَرَةٍ، (رُجُوعٌ عَنْ إجَابَةٍ لِغَرَضٍ) صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَمَّنْ يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ، فَكَانَ لَهَا الِاحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا وَالْوَلِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهَا فِي ذَلِكَ (وَإِلَّا) يَكُنْ الرُّجُوعُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ (كُرِهَ) مِنْهُ وَمِنْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ الْقَوْلِ، وَلَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدُ لَمْ يَلْزَمْ، كَمَنْ سَاوَمَ سِلْعَتَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهَا. وَإِنْ كَرِهَتْ الْمُجْبَرَةُ الْمُجَابَ، وَاخْتَارَتْ كُفُؤًا غَيْرَهُ (وَ) عَيَّنَتْهُ سَقَطَ حُكْمُ إجَابَةِ وَلِيِّهَا إذْ (اخْتِيَارُهَا) إذَا تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ (مُقَدَّمٌ عَلَى اخْتِيَارِ خِطْبَةِ وَلِيٍّ) وَإِنْ كَرِهَتْهُ، وَلَمْ تَخْتَرْ سِوَاهُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ الْإِجَابَةِ (وَمَنْ خَطَبَ امْرَأَةً فَخَطَبَتْهُ) امْرَأَةٌ (أُخْرَى) أَوْ خَطَبَهُ وَلِيُّهَا يَنْبَغِي التَّحْرِيمُ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ لِلْمَخْطُوبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، أَوْ خَطَبَتْهُ امْرَأَةٌ (أَوْ) خَطَبَهُ (وَلِيُّهَا ابْتِدَاءً، فَأَجَابَ، فَخَطَبَهَا) رَجُلٌ (آخَرُ، يَنْبَغِي التَّحْرِيمُ. قَالَهُ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ لِلْخَاطِبِ، كَمَا أَنَّ ذَلِكَ إيذَاءٌ لِلْمَخْطُوبِ، إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَاطِبُ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ فِي الْإِيذَاءِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، انْتَهَى.
تَتِمَّةٌ:
قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي جَوَازَ خِطْبَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى خِطْبَةِ أُخْتِهَا وَصَرَّحَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ بِالْمَنْعِ، وَلَعَلَّ الْعِلَّةَ تُسَاعِدُهُ، وَأَمَّا السَّعْيُ مِنْ الْأَبِ لِلْأَيِّمِ فِي التَّزْوِيجِ وَاخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ؛ لِفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ عَرَضَ حَفْصَةَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: (وَفِي تَحْرِيمِ خِطْبَةِ مَنْ أَذِنَتْ) هِيَ (لِوَلِيِّهَا بِتَزْوِيجِهَا مِنْ) شَخْصٍ (مُعَيَّنٍ) مُسْلِمٍ (احْتِمَالَانِ): أَحَدُهُمَا- يَحْرُمُ كَمَا لَوْ خَطِبَتْ، فَأَجَابَتْ.
قَالَ التَّقِيُّ الْفَتُوحِيُّ: الْأَظْهَرُ التَّحْرِيمُ. وَالثَّانِي- لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُبْهَا أَحَدٌ، وَهُمَا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ الْقَاضِي أَنَّ سُكُوتَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْخِطْبَةِ لَيْسَ خِطْبَةً بِحَالٍ. (وَيَصِحُّ عَقْدٌ مَعَ خِطْبَةٍ حَرُمَتْ) عَلَى خَاطِبٍ، بِأَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ خَطَبَهَا غَيْرُهُ قَبْلَهُ، فَأَجَابَتْهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْحَظْرِ عَلَى الْعَقْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ؛ أَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَّمَ عَلَى الْعَقْدِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ مُسْلِمٍ. (وَيُسَنُّ عَقْدُ) النِّكَاحِ (مَسَاءَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَمْسُوا بِالْأَمْلَاكِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِمَقْصُودِهِ، وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ وَيَوْمُ عِيدٍ، وَالْبَرَكَةُ فِي النِّكَاحِ مَطْلُوبَةٌ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ أَشْرَفُ الْأَيَّامِ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ وَالْإِمْسَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ.
(وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَخْطُبَ) الْعَاقِدُ (قَبْلَهُ) أَيْ: النِّكَاحِ (بِخُطْبَةِ) عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ مَسْعُودٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَكَانَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ إذَا حَضَرَ الْعَقْدَ، وَلَمْ يَخْطَبْ فِيهِ بِهَا قَامَ وَتَرَكَهُمْ) وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِحْبَابِهَا، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ «رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ خُطْبَةً. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: «خَطَبْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ». وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ؛ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ خُطْبَةٌ كَالْبَيْعِ. (وَهِيَ) أَيْ: خُطْبَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يَضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ» فَفَسَّرَهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}, {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}, {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الْآيَةَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. وَاقْتَصَرَ فِي الْمُقْنِعِ وَالْمُنْتَهَى عَلَى خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. زَادَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ (وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالنِّكَاحِ، وَنَهَى عَنْ السِّفَاحِ، فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا وَآمِرًا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الْآيَةَ).
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا (وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ) إنَّ فُلَانًا يَخْطُبُ إلَيْكُمْ فُلَانَةَ، فَإِنْ أَنْكَحْتُمُوهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ وَإِنْ رَدَدْتُمُوهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ. وَالْمُسْتَحَبُّ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنْ السَّلَفِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ (وَيُقَالُ لِمُتَزَوِّجٍ نَدْبًا: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا وَعَلَيْكُمَا، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ وَعَافِيَةٍ) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَأَ إنْسَانًا، إذَا تَزَوَّجَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك وَبَارَكَ عَلَيْك وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» رَوَاه الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». (فَإِذَا زُفَّتْ) الزَّوْجَةُ (إلَيْهِ قَالَ نَدْبًا: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتهَا عَلَيْهِ) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا أَخَذَهُ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ، وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيدٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ: إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خُذْ بِرَأْسِ أَهْلِك، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي أَهْلِي وَبَارِكْ لِأَهْلِي فِي، وَارْزُقْنِي مِنْهُمْ، ثُمَّ شَأْنَك وَشَأْنَ أَهْلِك. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ. فَصْلٌ فِي خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرَهَا أَصْحَابُنَا: ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا، وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا لِئَلَّا يَرَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، فَيَعْمَلَ بِهَا أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي، فَوَجَبَ بَيَانُهَا لِتُعْرَفَ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ أَهَمُّ مِنْ هَذِهِ. وَمَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ، فِيهِ الْيَوْمَ، فَقَلِيلٌ لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِلتَّدَرُّبِ وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ. (خُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاجِبَاتٍ وَمَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ وَكَرَامَاتٍ قَالَهُ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ) وَقَدْ بَدَأَ بِالْوَاجِبَاتِ، فَقَالَ: (وَجَبَ عَلَيْهِ وِتْرٌ) لِخَبَرِ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَقَلُّ الضُّحَى لَا أَكْثَرُهُ، وَقِيَاسُهُ فِي الْوِتْرِ كَذَلِكَ، قِيلَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الضُّحَى.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا غَلَطٌ، وَلَمْ يَكُنْ يُوَاظِبُ عَلَى الضُّحَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِسُنَّتِهِ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ (قِيَامُ لَيْلٍ) وَلَمْ يُنْسَخْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْوِتْرُ غَيْرُ قِيَامِ اللَّيْلِ؛ لِحَدِيثٍ سَاقَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: «الْوِتْرُ وَالتَّهَجُّدُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ».
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَرَّقَ أَصْحَابُنَا هُنَا بَيْنَ الْوِتْرِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ. انْتَهَى.
وَأَكْثَرُ الْوَاصِفِينَ لِتَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرُوا عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَذَلِكَ هُوَ الْوِتْرُ، وَتَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَنَّ التَّهَجُّدَ بَعْدَ نَوْمٍ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ نَامَ ثُمَّ أَوْتَرَ، فَتَهَجَّدَ وَوَتَرَ، وَإِنْ أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ فَوَتَرَ لَا تَهَجُّدَ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ (سِوَاكٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ)، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ بِهِ لِكُلِّ صَلَاةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ (أُضْحِيَّةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَلَوْ عَبَّرَ بِالتَّضْحِيَةِ لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ اسْمٌ لِلشَّاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُضَحَّى بِهِ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (رَكْعَتَا فَجْرٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (تَخْيِيرُ نِسَائِهِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ (بَيْنَ فِرَاقِهِ) طَلَبًا لِلدُّنْيَا (وَالْإِقَامَةِ مَعَهُ) طَلَبًا لِلْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} الْآيَتَيْنِ. وَلِئَلَّا يَكُونَ مُكْرِهًا لَهُنَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا آثَرَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَوُّذٌ مِنْ فِتْنَةِ فِتْنَتِهِ كَمَا تَعَوَّذَ مِنْ الْغِنَى وَتَعَوَّذَ مِنْ فَقْرِ الْقَلْبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «لَيْسَ الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ». «وَخَيَّرَهُنَّ، وَبَدَأَ مِنْهُنَّ بِعَائِشَةَ، فَاخْتَرْنَ الْمُقَامَ».
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (إنْكَارُ مُنْكَرٍ رَآهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ) فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَا إذَا كَانَ الْمُرْتَكِبُ يَزِيدُهُ الْإِنْكَارُ إغْرَاءً؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إبَاحَتُهُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَّةِ. ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْقَوَاطِعِ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (مُشَاوَرَةٌ فِي الْأَمْرِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ) ذَوِي الْأَحْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَسْتَنَّ بِهَا الْحُكَّامُ بَعْدَهُ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيًّا عَنْهَا بِالْوَحْيِ.
(وَ) وَجَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا (مُصَابَرَةُ عَدُوٍّ كَثِيرٍ) إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الضِّعْفِ (لِلْوَعْدِ بِالنَّصْرِ) أَيْ: لِأَنَّهُ مَوْعُودٌ بِالْعِصْمَةِ وَالنَّصْرِ، بَلْ رَوَى الدَّمِيرِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْمَحْظُورِ بِقَوْلِهِ: (وَمُنِعَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ رَمْزٍ بِعَيْنٍ وَإِشَارَةٍ بِهَا) لِحَدِيثِ: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ الْإِيمَاءُ إلَى مُبَاحٍ مِنْ نَحْوِ ضَرْبٍ وَقَتْلٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَسُمِّيَ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، لِشَبَهِهِ بِالْخِيَانَةِ وَبِإِخْفَائِهِ، وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي مَحْظُورٍ.
(وَ) مِنْ (نَزْعِ لَأْمَةِ حَرْبٍ) أَيْ: سِلَاحِهِ كَدِرْعِهِ إذَا (لَبِسَهَا قَبْلَ لِقَاءِ عَدُوٍّ) وَيُقَاتِلُهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ لَمَّا أُشِيرَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ ثُمَّ يَنْزِعَهَا حَتَّى يُنْجِزَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ». وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اخْتِصَاصِ الْأَنْبِيَاءِ (وَ) مِنْ (إمْسَاكِ مَنْ كَرِهْت نِكَاحَهُ) كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ تَخْيِيرِ نِسَائِهِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِخَبَرِ الْعَائِذَةِ بِقَوْلِهَا: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ» رَوَاه الْبُخَارِيُّ.
(وَ) مِنْ (شِعْرٍ وَخَطٍّ وَتَعَلُّمِهِمَا) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وَقَالَ: «وَمَا كُنْت تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك» الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ». وَنَحْوُهُ فَلَيْسَ بِشِعْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ بِلَا قَصْدِ زِنَتِهِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَرُوضِ وَالْأَدَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ شِعْرًا إلَّا بِالْقَصْدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجَزِ، أَشِعْرٌ هُوَ أَمْ لَا؟ وَكَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ جَيِّدِ الشِّعْرِ وَرَدِيئِهِ.
(وَ) مِنْ (نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ) لِأَنَّهَا تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ، وَلِأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ كَافِرَةٍ. وَفِي الْخَبَرِ: ( «سَأَلْت رَبِّي أَنْ لَا أُزَوَّجَ إلَّا مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي»). رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ.
(وَ) مِنْ نِكَاحِ (أَمَةٍ) وَلَوْ مُسْلِمَةً، لِأَنَّ نِكَاحَهَا مُعْتَبَرٌ بِخَوْفِ الْعَنَتِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ، وَبِفِقْدَانِ مَهْرِ الْحُرَّةِ وَنِكَاحُهُ غِنًى عَنْ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَخَرَجَ بِالنِّكَاحِ التَّسَرِّي. وَمِنْ أَخْذِ (صَدَقَةٍ) لِنَفْسِهِ وَلَوْ تَطَوُّعًا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، وَكَذَا لِكَفَّارَةٍ؛ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: ( «إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ»). وَصِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ ذُلِّ الْآخِذِ وَعِزِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَأُبْدِلَ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الْمُنْبِئِ عَنْ عِزِّ الْآخِذِ وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.
(وَ) مِنْ (زَكَاةٍ عَلَى أَقَارِبِهِ) وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ عَلَى قَوْلٍ فِي بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَكَذَا مَوَالِيهِمْ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَيَكُونُ تَحْرِيمُهَا عَلَى هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ انْتِسَابِهِمْ إلَيْهِ، عُدَّ مِنْ خَصَائِصِهِ، أَمَّا صَدَقَةُ النَّفْلِ فَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ.
(وَ) مِنْ (أَنْ يُهْدِيَ لِيُعْطَى أَكْثَرَ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ}. لَا تُهْدِ لِتُعْطَى أَكْثَرَ، هَذَا الْأَدَبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى أُمَّتِهِ فِي ذَلِكَ. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك} إلَى قَوْلِهِ: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} الْآيَةَ، تَدُلُّ عَلَى (أَنَّ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ) مَعَهُ (لَمْ تَحِلَّ لَهُ: قَالَهُ الْقَاضِي) أَبُو يَعْلَى.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي قَرَابَاتِهِ فِي الْآيَةِ، لَا الْأَجْنَبِيَّاتِ، فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نَسْخَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ. (وَكَانَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَا يُصَلِّي) فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ (عَلَى مَدِينٍ) مَاتَ وَ(لَا وَفَاءَ لَهُ) كَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إذَا كَانَ (بِلَا ضَامِنٍ) وَيَأْذَنُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ (ثُمَّ نُسِخَ) الْمَنْعُ (فَكَانَ) آخِرًا (يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيُوفِي دَيْنَهُ مِنْ عِنْدِهِ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: {أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ} (وَلَا يُوَرَّثُ بَلْ تَرِكَتُهُ صَدَقَةٌ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِنَبِيِّنَا، بَلْ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُهُ، فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ. (وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ أَنَّهُ (لَا يُمْنَعُ مِنْ الْإِرْثِ. وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ لَا يَرِثُ؛ وَلَا يَعْقِلُ بِالْإِجْمَاعِ) وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِنْصَافِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْمُبَاحَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَأُبِيحَ لَهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (التَّزَوُّجُ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ،) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْجَوْرِ. وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَفِي الرِّعَايَةِ كَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ ثُمَّ مُنِعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} انْتَهَى (ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك}) الْآيَةَ. (لِتَكُونَ الْمِنَّةُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِتَرْكِ التَّزَوُّجِ عَلَيْهِنَّ، وَقِيلَ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ.
(وَ) لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (التَّزَوُّجُ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ) لِأَنَّ اعْتِبَارَ الشُّهُودِ لَأَمِنَ الْجُحُودِ، وَهُوَ مَأْمُونٌ مِنْهُ، وَالْمَرْأَةُ لَوْ جَحَدَتْ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَاعْتِبَارُ الْوَلِيِّ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْكَفَاءَةِ، وَهُوَ فَوْقَ الْأَكْفَاءِ. وَلَهُ التَّزَوُّجُ أَيْضًا بِلَا (مَهْرٍ) وَهُوَ بِمَعْنَى الْهِبَةِ، فَلَا يَجِبُ مَهْرٌ ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، الْآيَةَ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي زَمَنِ الْإِحْرَامِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» لَكِنَّ أَكْثَرَ الرَّوِيَّاتِ أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَتْ: «تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ». وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: «تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْت السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَقَدْ رَدَّ بِهَذَا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأُولَى. وَلَهُ التَّزَوُّجُ (بِلَفْظِ هِبَةٍ) لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ (وَيَحِلُّ لَهُ) نِكَاحُ الْمَرْأَةِ (بِتَزْوِيجِ اللَّهِ) تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِعَقْدٍ (كَزَيْنَبِ) قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وَإِذَا تَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لَا يَجِبُ مَهْرٌ بِالْعَقْدِ وَلَا بِالدُّخُولِ، لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَلَهُ أَنْ (يُرْدِفَ الْأَجْنَبِيَّةَ خَلْفَهُ) لِقِصَّةِ أَسْمَاءَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ «امْرَأَةٍ مِنْ غِفَارٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَهَا عَلَى حَقِيبَتِهِ». وَلَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِقِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ.
(وَ) لَهُ أَنْ (يُزَوِّجَهَا) أَيْ الْأَجْنَبِيَّةَ (لِمَنْ شَاءَ بِلَا إذْنِهَا وَإِذْنِ وَلِيِّهَا، وَأَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. (وَإِنْ كَانَتْ) الْمَرْأَةُ (خَلِيَّةً) مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ (وَرَغِبَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِيهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْإِجَابَةُ، وَحَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا) لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَأُبِيحَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وِصَالُ صَوْمٍ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْن: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ. فَقِيلَ: إنَّك تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إنِّي لَسْت مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»؛ أَيْ: أُعْطِيَ قُوَّةَ الطَّاعِمِ وَالشَّارِبِ.
(وَ) أُبِيحَ لَهُ (خُمُسُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ) وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْوَقْعَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. وَأُبِيحَ لَهُ (الصَّفِيُّ مِنْ الْمَغْنَمِ) وَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، كَجَارِيَةٍ وَسَيْفٍ وَدِرْعٍ، وَمِنْهُ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأُبِيحَ لَهُ (دُخُولُ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ) مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَأُبِيحَ لَهُ (الْقِتَالُ فِيهَا) أَيْ: فِي مَكَّةَ (سَاعَةً) مِنْ النَّهَارِ، وَكَانَتْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ (وَ) لَهُ (أَخْذُ الْمَاءِ مِنْ الْعَطْشَانِ) وَالطَّعَامِ مِنْ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأُبِيحَ لَهُ (أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ إحْدَى الثَّلَاثِ) نَصًّا، يَعْنِي بِالثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَابْنِ عَقِيلٍ: وَيُبَاحُ لَهُ مِلْكُ الْيَمِينِ مُسْلِمَةً كَانَتْ الْأَمَةُ أَوْ مُشْرِكَةً كِتَابِيَّةً، وَلَا يَسْتَشْكِلُ جَوَازُ التَّسَرِّي بِالْكِتَابِيَّةِ بِمَا عَلَّلُوا بِهِ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ، لِأَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَسْتَلْزِمُ الصُّحْبَةَ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ كَرَاهَتَهَا، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ بِالنِّكَاحِ أَصَالَةُ التَّوَالُدِ فَاحْتِيطَ لَهُ، وَيَلْزَمُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ الْمُشْرِكَةُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرَامَاتِ بِقَوْلِهِ (وَأُكْرِمَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ جُعِلَ خَاتَمَ (الْأَنْبِيَاءِ) قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (وَ) جُعِلَ (خَيْرَ الْخَلْقِ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ) لِحَدِيثِ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»؛ أَيْ وَلَا فَخْرَ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْفَخْرِ الَّذِي أُعْطِيتُهُ، أَوْ لَا أَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ، بَلْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ أَوْ لِلتَّبْلِيغِ، وَحَدِيثِ «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ». وَنَحْوِهِ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلٌ يُؤَدِّي إلَى التَّنْقِيصِ، وَنَوْعُ الْآدَمِيِّ أَفْضَلُ الْخَلْقِ.
(وَ) هُوَ (أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ». (وَأَوَّلُ شَافِعٍ) وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَأَوَّلُ (قَارِعٍ) يَقْرَعُ (بَابَ الْجَنَّةِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
(وَ) هُوَ (أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا) لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: ( «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعًا»). وَحَدِيثِ الْبَزَّارِ: «يَأْتِي مَعِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ السَّيْلِ وَاللَّيْلِ». وَحَدِيثِ مُسْلِمٍ: ( «مَا صُدِّقَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْت؛ إذْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ»). (وَأُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَيْ أَلْفَاظًا قَلِيلَةً تُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً. (وَصُفُوفُ أُمَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ) لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: «أَلَّا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا، يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ». (وَأُمَّتُهُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ) قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْأُمَمِ (بِتَبْلِيغِ رُسُلِهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. (وَأَصْحَابُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ) لِحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَأُمَّتُهُ مَعْصُومَةٌ مِنْ اجْتِمَاعٍ عَلَى الضَّلَالَةِ) لِحَدِيثِ: «لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ. لَكِنْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ لَهُ شَوَاهِدَ، (وَ) لِذَلِكَ كَانَ (إجْمَاعُهُمْ) أَيْ: إجْمَاعُ مُجْتَهِدِيهِمْ (حُجَّةً) وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةً. (وَنَسَخَ شَرْعُهُ الشَّرَائِعَ) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ أَمَرَ بِتَرْكِ شَرَائِعِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، (وَلَا يُنْسَخُ) شَرْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ (وَكِتَابُهُ مُعْجِزٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ. (وَمَحْفُوظٌ عَنْ التَّبْدِيلِ) وَالتَّحْرِيفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ، وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَزِيَادَةً، وَجَمَعَ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُسِّرَ لِلْحِفْظِ، وَنَزَلَ مُنَجَّمًا، وَعَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ- أَيْ أَوْجُهٍ- مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ، وَبِكُلِّ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ، لَكِنَّ أَكْثَرَهُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَفِيهِ خَمْسُونَ لُغَةً ذَكَرَهَا الْوَاسِطِيُّ فِي الْإِرْشَادِ. (وَإِذَا ادَّعَى) عَلَى غَيْرِهِ (أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ) بِشَيْءٍ؛ (فَالْقَوْلُ) (قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (بِلَا يَمِينٍ) لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. (وَكَانَ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ) لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خَطَأٌ يُقَرُّ عَلَيْهِ. وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ (وَهُوَ غَضْبَانُ)، (وَ) لَهُ أَنْ (يَحْكُمَ) لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ (وَيَشْهَدُ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ) أَوْ لِوَلَدِهِ، لِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ يَشْهَدُ وَيَقْبَلُ وَيَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ وَبِإِبَاحَةِ الْحِمَى لِنَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي (إحْيَاءِ الْمَوَاتِ)؛ (وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفُرُوعِ (وُجُوبُ قَسْمٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ (كَغَيْرِهِ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَذَكَرَهُ فِي الْمُجَرَّدِ والْفُنُونِ وَالْفُصُولِ انْتَهَى؛ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ (وَابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: الْقَسْمُ غَيْرُ وَاجِبٍ) عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَأُبِيحَ لَهُ تَرْكُ الْقَسْمِ، قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَقَسْمِ الِانْتِهَاءِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي فِي الْجَامِعِ.
(وَجُعِلَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. (وَيَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ أَنْ يَقِيَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ) وَلَهُ طَلَبُ ذَلِكَ حَتَّى مِنْ الْمُحْتَاجِ، وَيَفْدِي بِمُهْجَتِهِ مُهْجَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمِثْلُهُ لَوْ قَصَدَهُ ظَالِمٌ فَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ دُونَهُ.
(وَ) يَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ (أَنْ يُحِبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ)- لِحَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَحَبَّةُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا مَحَبَّةُ الشَّوْقِ النَّاشِئَةِ فِي الْغَالِبِ عَنْ الْعِشْقِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَشَوَّقُ لِمَحْبُوبِهِ وَوَلَدِهِ وَيَوْلَعُ بِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ فَكُلُّ مُسْلِمٍ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وُجُوبًا؛ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ- (وَ) أَكْثَرُ مِنْ (مَالِهِ وَوَلَدِهِ) وَوَالِدِهِ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» رَوَاه الْبُخَارِيُّ. زَادَ النَّسَائِيُّ: «وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». (وَحَرُمَ) عَلَى غَيْرِهِ (نِكَاحُ زَوْجَاتِهِ بَعْدَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} حَتَّى مَنْ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَهُ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ؛ وَأَمَّا تَحْرِيمُ سَرَارِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ؛ وَجَزَمَ الطَّاوُسِيُّ وَالْبَارِزِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْهُمْ بِالتَّحْرِيمِ قِيَاسًا عَلَى زَوْجَاتِهِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الْبَهْجَة: وَظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا أُمٍّ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ الْمَنْعَ أَقْوَى مَنْعًا انْتَهَى.
(وَهُنَّ أَزْوَاجُهُ دُنْيَا وَأُخْرَى) لِلْخَبَرِ (وَ) جُعِلْنَ (أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ مَنْ مَاتَتْ عَنْهُ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَ(فِي وُجُوبِ احْتِرَامِهِنَّ وَطَاعَتِهِنَّ وَتَحْرِيمِ عُقُوقِهِنَّ) دُونَ الْخَلْوَةِ وَالنَّظَرِ وَالْمُسَافَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَتَعَدَّى تَحْرِيمُ نِكَاحِهِنَّ إلَى قَرَابَتِهِنَّ؛ فَلَا تَحْرُمُ بَنَاتُهُنَّ، وَلَا أُمَّهَاتُهُنَّ، وَلَا أَخَوَاتُهُنَّ وَنَحْوُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إجْمَاعًا: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (وَجُعِلَ ثَوَابُهُنَّ وَعِقَابُهُنَّ ضِعْفَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الْآيَتَيْنِ. (وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُسْأَلْنَ شَيْئًا إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (وَيَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ غَيْرُهُنَّ) مِنْ النِّسَاءِ مُشَافَهَةً. وَأَفْضَلُهُنَّ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ، وَمَا ثَبَتَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ لَهُ: قَدْ رَزَقَك اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا: لَا وَاَللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ». وَمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ أَقْرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِبْرِيلَ، وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ»، يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ، وَخَبَرِ: «فَاطِمَةُ بُضْعَةٌ مِنِّي» وَقَوْلُهُ لَهَا: «أَمَّا تَرْضِينَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاطِمَةَ أَفْضَلُ. وَاحْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ عَائِشَةَ بِمَا احْتَجَّتْ بِهِ مِنْ أَنَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّرَجَةِ، وَفَاطِمَةُ مَعَ عَلِيٍّ فِيهَا، (وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُنْسَبُونَ إلَيْهِ) لِحَدِيثِ «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ مُشِيرًا إلَى الْحَسَنِ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى (دُونَ أَوْلَادِ بَنَاتِ غَيْرِهِ؛ لِحَدِيثِ): «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا قَطُّ إلَّا جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ صُلْبِهِ، غَيْرِي، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذُرِّيَّتِي مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ» ذَكَرَهُ فِي الْخَصَائِصِ الصُّغْرَى (وَالنَّجَسُ مِنَّا طَاهِرٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ)، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَشْفَى بِبَوْلِهِ وَدَمِهِ، رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ: «أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ شَرِبَتْ بَوْلَهُ، فَقَالَ: إذَنْ لَا تَلِجُ النَّارُ بَطْنَك». لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ: «أَنَّ غُلَامًا حَجَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حِجَامَتِهِ شَرِبَ دَمَهُ، فَقَالَ: وَيْحَك مَا صَنَعْت بِالدَّمِ؟ قَالَ: غَيَّبْتُهُ فِي بَطْنِي. قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ أَحْرَزْت نَفْسَك مِنْ النَّارِ».
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ مَا صَنَعَهُ الْمَلَكَانِ مِنْ غَسْلِهِمَا جَوْفَهُ (وَهُوَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (طَاهِرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ) وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ غَيْرَهُ أَيْضًا طَاهِرٌ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيْءٌ) أَيْ: ظِلٌّ فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ (لِأَنَّهُ نُورَانِيٌّ، وَالظِّلُّ نَوْعُ ظُلْمَةٍ) ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَجِهَاتِهِ نُورًا، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: «وَاجْعَلْنِي نُورًا» (وَكَانَتْ الْأَرْضُ تَجْذِبُ أَتْفَالَهُ) لِلْأَخْبَارِ (وَسَاوَى الْأَنْبِيَاءَ فِي مُعْجِزَاتِهِمْ، وَانْفَرَدَ بِالْقُرْآنِ) فَآدَمُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَمُحَمَّدٌ شَقَّ صَدْرَهُ وَمَلَأَهُ ذَلِكَ الْخُلُقَ النَّبَوِيَّ، وَأَعْطَى إدْرِيسَ عُلُوَّ الْمَكَانِ، وَمُحَمَّدًا الْمِعْرَاجَ وَلَمَّا نَجَّى إبْرَاهِيمَ مِنْ النَّارِ نَجَّى مُحَمَّدًا مِنْ نَارِ الْحَرْبِ، وَلَمَّا أَعْطَاهُ مَقَامَ الْخُلَّةِ أَعْطَى مُحَمَّدًا مَقَامَ الْمَحَبَّةِ؛ بَلْ جَمَعَهُ لَهُ مَعَ الْخُلَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي يَعْلَى فِي الْمِعْرَاجِ. فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَتَّخِذُهُ خَلِيلًا وَحَبِيبًا، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ، وَلَمَّا أَعْطَى مُوسَى قَلْبَ الْعَصَا حَيَّةً أَعْطَى مُحَمَّدًا حُنَيْنَ الْجِذْعِ الَّذِي هُوَ أَغْرَبُ، وَلَمَّا أَعْطَاهُ انْفِلَاقَ الْبَحْرِ أَعْطَى مُحَمَّدًا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَبْهَرُ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَلَمَّا أَعْطَاهُ تَفْجِيرَ الْمَاءِ مِنْ الْحَجَرِ، أَعْطَى مُحَمَّدًا نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَلَمَّا أَعْطَاهُ الْكَلَامَ أَعْطَى مُحَمَّدًا الدُّنُوَّ وَالرُّؤْيَةَ، وَأَعْطَى يُوسُفَ شَطْرَ الْحُسْنِ، وَأَعْطَى مُحَمَّدًا الْحُسْنَ كُلَّهُ، وَلَمَّا أَعْطَى دَاوُد تَلْيِينَ الْحَدِيدِ، أَعْطَى مُحَمَّدًا اخْضِرَارَ الْعُودِ الْيَابِسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمَّا أَعْطَى سُلَيْمَانَ كَلَامَ الطَّيْرِ أَعْطَى مُحَمَّدًا أَنْ كَلَّمَ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ وَالزَّرْعَ وَالضَّبَّ، وَلَمَّا أَعْطَى عِيسَى إبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، أَعْطَى مُحَمَّدًا رَدَّ الْعَيْنِ بَعْدَ سُقُوطِهَا، وَهَكَذَا.
(وَ) أُحِلَّتْ لَهُ (الْمَغَانِمُ) وَلَمْ تَحُلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ؛ لِحَدِيثِ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ مِنْ قَبْلِي» وَالْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْجِهَادِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ غَنَائِمُ وَالْمَأْذُونُ لَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا، فَتَأْتِي نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا إلَّا الذُّرِّيَّةَ. (وَجُعِلَتْ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الْأَرْضُ مَسْجِدًا) أَيْ: مَحَلَّ سُجُودٍ، فَأَيَّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَكَان صَلَّى، وَلَمْ تَكُنْ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ تُصَلِّي إلَّا فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ (وَ) جُعِلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ( «تُرَابُهَا طَهُورًا») أَيْ: مُطَهِّرًا وَهُوَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ شَرْعًا رَوَى ذَلِكَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. ( «وَنُصِرَ بِالرُّعْبِ») أَيْ: بِسَبَبِ خَوْفِ الْعَدُوِّ مِنْهُ (مَسِيرَةَ شَهْرٍ) أَمَامَهُ وَشَهْرٍ خَلْفَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْمَدِينَةِ. رَوَى ذَلِكَ الشَّيْخَانِ، وَجُعِلَتْ الْغَايَةُ شَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ. (وَبُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} وَأَمَّا عُمُومُ رِسَالَةِ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفَانِ؛ فَلِانْحِصَارِ الْبَاقِينَ فِيمَا كَانُوا مَعَهُ، وَأُرْسِلَ إلَى الْجِنِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى قَوْلٍ. (وَأُعْطِيَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ) وَهُوَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّ فِيهِ يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَعَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ والْخَصَائِصِ وَغَيْرِهِمَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ: جُلُوسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَرْشِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: عَلَى الْكُرْسِيِّ. (وَمُعْجِزَاتُهُ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) كَالْقُرْآنِ، وَانْقَطَعَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ بِمَوْتِهِمْ؛ إذْ أَكْثَرُ مُعْجِزَاتِ بَنْيِ إسْرَائِيلَ كَانَتْ حِسِّيَّةً تُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ؛ كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، فَانْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارِهِمْ، وَلَمْ يُشَاهِدْهَا إلَّا مَنْ حَضَرَهَا، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ تُشَاهَدُ بِالْبَصِيرَةِ، فَتَسْتَمِرُّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ إلَّا وَيَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ؛ إذْ مَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ يَعْلَمُهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَ الْأَوَّلِ (وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بِبَرَكَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَلَّتْ فِيهِ) أَيْ: الْمَاءِ (بِوَضْعِ أَصَابِعِهِ، فَجَعَلَ يَفُورُ؛ وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) حِينَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وُقُوعُهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَفَذَ الْمَاءُ، فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، فَفَارَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أُصْبُعَيْهِ، فَشَرِبُوا، وَتَوَضَّئُوا وَهُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ (لَا أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، قَالَهُ فِي الْهَدْيِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ: فَرَأَيْت الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ.
قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكِلَاهُمَا مُعْجِزَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ غَيْرِ مُلَابَسَةِ مَاءٍ وَلَا وَضْعِ إنَاءٍ، تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى؛ إذَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِابْتِدَاعِ الْمَعْدُومَاتِ وَإِيجَادِهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ. (وَيَجِبُ عَلَى مَنْ دَعَاهُ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَطْعُ صَلَاتِهِ وَإِجَابَتُهُ): لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ}. (وَتَطَوُّعُهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَاعِدًا) بِلَا عُذْرٍ (كَتَطَوُّعِهِ قَائِمًا فِي الْأَجْرِ) لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ «ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَالَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قُلْت: حُدِّثْت أَنَّك قُلْت: صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ».
قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُذْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِعَدَمِ الْفَرْقِ (وَقَالَ الْقَفَّالُ) تَطَوُّعُهُ بِالصَّلَاةِ قَاعِدًا (عَلَى النِّصْفِ) مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ (كَغَيْرِهِ) وَيَرُدُّهُ مَا سَبَقَ. (وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ رَفْعُ صَوْتِهِ فَوْقَ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أَوْ أَيْ: وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ (بِاسْمِهِ كَيَا مُحَمَّدُ، بَلْ) يَقُولُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْكُنْيَةُ مِنْ الِاسْمِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ نِدَائِهِ بِكُنْيَتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ قَائِلُهُ، أَوْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. (وَيُخَاطَبُ فِي الصَّلَاةِ) بِقَوْلِهِ: (السَّلَامُ عَلَيْك أَيَّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) وَتَبْطُلُ بِخِطَابِ مَخْلُوقٍ غَيْرِهِ، «وَخَاطَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: أَلْعَنُك بِلَعْنَةِ اللَّهِ» وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَفِي الْفُرُوعِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوْ مُؤَوَّلٌ انْتَهَى فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْخُصُوصِيَّةِ وَكَانَتْ الْهَدِيَّةُ حَلَالًا لَهُ (فَكَانَ إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ، أَهَدِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ)، قَالَهُ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ وَأَكَلَ مَعَهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَلَا تَحِلُّ لَهُمْ هَدِيَّةُ رَعَايَاهُمْ) لِمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» رَوَاه أَحْمَدُ (وَمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ) لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنْهُ، لَكِنْ لَا يَعْمَلُ الرَّائِي بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ لِعَدَمِ الضَّبْطِ، لَا لِلشَّكِّ فِي رُؤْيَتِهِ. (وَكَانَ لَا يَتَثَاءَبُ) لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ عَصَمَهُ مِنْهُ (وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ) كَمَا عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ؛ (لِحَدِيثِ الدَّيْلَمِيِّ: «مُثِّلَتْ لِي الدُّنْيَا بِالْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعُلِّمْت الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا؛ كَمَا عُلِّمَ آدَم الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا») وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمَّتَهُ بِأَسْرِهِمْ حَتَّى رَآهُمْ؛ لِحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُمَّتِي الْبَارِحَةَ لَدَى هَذِهِ الْحُجْرَةِ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا، صُوِّرُوا لِي بِالْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى إنِّي لَأَعْرَفُ بِالْإِنْسَانِ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِصَاحِبِهِ». وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا هُوَ كَائِنٌ فِي أُمَّتِهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: «أَرَأَيْت مَا تَلْقَى أُمَّتِي بَعْدِي وَسَفْكَ بَعْضِهِمْ دِمَاءَ بَعْضٍ». (وَيَبْلُغُهُ سَلَامُ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ». (وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ كَبِيرَةٌ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَعْنَاهُ، وَالْكَذِبُ عَلَى غَيْرِهِ صَغِيرَةٌ، إلَّا فِيمَا يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ ( «وَمَنْ تَعَمَّدَهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ») (وَتَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «إنَّ عَيْنَايَ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي». وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي خَبَرِ الْإِسْرَاءِ: «وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ». وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ نَوْمُهُ فِي الْوَادِي عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ إنَّمَا يُدْرَكُ بِالْعَيْنِ، وَهِيَ نَائِمَةٌ، أَوْ يُقَالُ: كَانَ لَهُ نُوَمَانِ أَحَدُهُمَا تَنَامُ عَيْنُهُ وَقَلْبُهُ، وَالثَّانِي عَيْنُهُ دُونَ قَلْبِهِ، وَكَانَ نَوْمُ الْوَادِي مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِقَوْلِهِ: «وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»، وَالْفِعْلُ كَالنَّكِرَةِ؛ فَيَعُمُّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَلَا نَقْضَ بِنَوْمِهِ وَلَوْ كَانَ مَضْجَعًا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضْطَجَعَ، وَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» (وَ) كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَ) مَا يَرَى مِنْ (أَمَامِهِ رُؤْيَةً بِالْعَيْنِ حَقِيقَةً نَصًّا) كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِيهِ مُقَيَّدَةٌ بِحَالِ الصَّلَاةِ، فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ؛ لِقَوْلِهِ: «لَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ جِدَارِي هَذَا». قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ (وَالدَّفْنُ فِي الْبُنْيَانِ مُخْتَصٌّ بِهِ لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: «لَمْ يُقْبَرْ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ قُبِضَ». (وَاسْتُحِبَّتْ زِيَارَتُهُ لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ) لِعُمُومِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي». وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي». وَكَقَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَفِي عُمُومِ الزِّيَارَةِ تَبَعًا لَهُ قَبْرُ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ زِيَارَةُ مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَتَقَدَّمَ. (وَخُصَّ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ) اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: كَانَ خَاصًّا بِهِ، وَكَذَا أَجَابَ الْقَاضِي؛ «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَنْهَى عَنْهُمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْهَا: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ». وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ أَنَّهُ مِنْ قَضَاءِ الرَّاتِبَةِ إذَا فَاتَتْ، وَلَيْسَ بِخُصُوصِيَّةٍ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ (وَقَدْ ذُكِرَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ مُفَرَّقًا فِي مَوَاضِعِهِ). وَخَصَائِصُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ، وَفِيهَا كُتُبٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَعْضِهَا.
تَتِمَّةٌ:
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ إنْ كَانَ لِنَبِيٍّ مَالٌ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ. قِيلَ لِلْقَاضِي: الزَّكَاةُ طُهْرَةٌ وَالنَّبِيُّ مُطَهَّرٌ، فَقَالَ: بَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، ثُمَّ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُمْ مُطَهَّرُونَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ لَزِمَتْهُمْ الزَّكَاةُ بَابُ أَرْكَانِ النِّكَاحِ وَشُرُوطِهِ. أَرْكَانُ الشَّيْءِ أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ، وَالْمَاهِيَّةُ لَا تُوجَدُ بِدُونِ جُزْئِهَا، فَكَذَا الشَّيْءُ لَا يَتِمُّ بِدُونِ رُكْنِهِ، وَالشَّرْطُ مَا يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ بِانْتِفَائِهِ، وَلَيْسَ جُزْءًا لِلْمَاهِيَّةِ. (أَرْكَانُهُ) أَيْ: النِّكَاحِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: (الزَّوْجَانِ) الْخَالِيَانِ مِنْ الْمَوَانِعِ الْآتِيَةِ فِي مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، وَأَسْقَطَهُ فِي الْمُقْنِعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا؛ لِوُضُوحِهِ (فَإِيجَابٌ) وَهُوَ الثَّانِي (فَقَبُولٌ) وَهُوَ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ النِّكَاحِ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا، وَمُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِمَا إلَّا (مُرَتَّبَيْنِ) الْإِيجَابُ أَوَّلًا، وَهُوَ اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيِّ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ وَالْقَبُولُ وَهُوَ اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِيجَابِ؛ فَإِذَا وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولًا؛ لِعَدَمِ مَعْنَاهُ. (وَيَتَّجِهُ: أَنَّ تَرْتِيبَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَجِبُ إنْ تَعَدَّدَ الْعَاقِدُ) لَا مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ تَعَدَّدَ الْعَاقِدُ أَوْ لَا (لِإِجْزَاءِ أَحَدِهِمَا) أَيْ: اللَّفْظَيْنِ (فِي) صُورَةِ (تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ) كَمَا يَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مُسْتَوْفًى، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَشُرِطَ فِي إيجَابٍ) وَهُوَ اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْ الْوَلِيِّ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (لَفْظُ إنْكَاحٍ) أَوْ لَفْظُ (تَزْوِيجٍ) بِأَنْ يَقُولَ: أَنْكَحْتُك فُلَانَةَ، أَوْ زَوَّجْتُكهَا؛ إذْ الْإِيجَابُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ لَا غَيْرُ، هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا وَرَدَ بِهِمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} وَلَمْ يَرِدْ بِغَيْرِهِمَا، وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ بِمَعْنَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِمَا، وَإِذَا لَمْ يَرِدْ صَرِيحًا كَانَ كِنَايَةً، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْكِنَايَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الشَّهَادَةَ، وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا تَعْمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَالنِّيَّةُ لَا اطِّلَاعَ لِلشَّاهِدِ عَلَيْهَا، فَلَا يُمْكِنُهُ الشَّهَادَةُ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ لِذَلِكَ. (وَيَتَّجِهُ احْتِمَالُ أَنَّ) الْإِيجَابَ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَيَنْعَقِدُ أَيْضًا (بِمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا) كَقَوْلِ وَلِيٍّ: جَعَلْت مُولِيَتِي مُزَوَّجَةً مِنْ فُلَانٍ، أَوْ زَوْجَةً لَهُ، أَوْ جَعَلْتهَا مَنْكُوحَةً؛ إذْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ اللَّفْظَيْنِ الَّذِينَ يَحْصُلُ بِهِمَا الْإِيجَابُ إجْمَاعًا؛ فَصَحَّ بِهَا كَمَا صَحَّ بِأَصْلِهَا، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ خَطِيبِ السَّلَامِيَّةِ فِي نُكَتِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَمِنْ خَطِّهِ نُقِلَتْ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. قَالَ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيَاسُ مَذْهَبِهِ، وَعَلَيْهِ قُدُمًا أَصْحَابُهُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: جَعَلْت عِتْقَك صَدَاقَك، وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ إنْكَاحٌ وَلَا تَزْوِيجٌ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْ أَحْمَدَ أَحَدٌ أَنَّهُ خَصَّهُ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِيمَا عَلِمْت: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ابْنُ حَامِدٍ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، لِسَبَبِ انْتِشَارِ كُتُبِهِ، وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ. انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ بِغَيْرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فَلَأَنْ يَصِحَّ بِمَا اُشْتُقَّ مِنْهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَالْمَذْهَبُ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ أَيْ: وَيَصِحُّ قَوْلُ سَيِّدٍ (لِمَنْ يَمْلِكُهَا) أَوْ (يَمْلِكُ بَعْضَهَا) وَبَعْضَهَا الْآخَرَ حُرٌّ إذَا أَذِنْت لَهُ هِيَ وَمُعْتِقُ الْبَقِيَّةِ (أَعْتَقْتُك وَجَعَلْت عِتْقَك صَدَقَتَك وَنَحْوَهُ) مَا يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَأْتِي لِقِصَّةِ صَفِيَّةَ؛ إذْ الْعَادِلُ عَنْ هَذِهِ الصِّيَغِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَهَا عَادِلٌ عَنْ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً فَقَالَ: مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؛ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ: زَوَّجْتُكَهَا وَزَوَّجْنَاكَهَا، وأَنْكَحْتُكَهَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ وَرَّى بِالْمَعْنَى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَبْقَى حُجَّةٌ. (وَإِنْ فَتَحَ وَلِيٌّ تَاءَ زَوَّجْتُك صَحَّ) النِّكَاحُ (لِجَاهِلٍ) بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ أَيْ: صَحَّ مِنْهُ، وَصَحَّ أَيْضًا (مِنْ عَاجِزَةٍ) عَنْ النُّطْقِ بِضَمِّ التَّاءِ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: يَصِحُّ جَهْلًا أَوْ عَجْزًا، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ. قِيلَ: وَمِنْ عَالِمٍ بِالْعَرَبِيَّةِ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ بِضَمِّ التَّاءِ أَوْ لَا. أَفْتَى بِهِ الْمُوَفَّقُ، وَتَوَقَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَاصِحُ الْإِسْلَامِ ابْنُ أَبِي الْفَهْمِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ قَبِلْت بِفَتْحِ التَّاءِ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَا عَدَّهُ النَّاسُ نِكَاحًا بِأَيِّ لُغَةٍ وَلَفْظٍ كَانَ) وَأَنَّ مِثْلَهُ كُلُّ عَقْدٍ، فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ؛ بِمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا بِأَيِّ لُغَةٍ وَلَفْظٍ كَانَ، وَالْإِجَارَةُ بِمَا عَدَّهُ النَّاسُ إجَارَةً بِأَيِّ لُغَةٍ وَلَفْظٍ كَانَ؛ وَهَكَذَا. وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ الشَّرْطَ بَيْنَ النَّاسِ مَا عَدُوُّهُ شَرْطًا. (وَيَصِحُّ) إيجَابٌ بِلَفْظِ زُوِّجَتْ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ التَّاءِ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهِ، لَا جَوَّزْتُك بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ، وَشَرْطٌ فِي قَبُولِ لَفْظِ قَبِلْت، أَوْ لَفْظِ رَضِيت، أَوْ لَفْظِ تَزَوَّجْت. وَسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُولَ إلَّا قَبِلْت تَجْوِيزَهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ، فَأَجَابَ بِالصِّحَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: جَوْزَتِي طَالِقٌ؛ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ قُلْت: يُكْتَفَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: قَبِلْت عَلَى مَا يَأْتِي، وَيَكُونُ هَذَا قَوْلُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. (وَإِنْ قِيلَ) أَيْ: قَالَ الْخَاطِبُ (لِمُزَوِّجٍ: أَزَوَّجْت) مُوَلِّيَتَك (فَقَالَ) الْمُزَوِّجُ (نَعَمْ، وَ) قَالَ الْخَاطِبُ (لِمُتَزَوِّجٍ: أَقَبِلْت) النِّكَاحَ (فَقَالَ) الْمُتَزَوِّجُ (نَعَمْ؛ صَحَّ) النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: نَعَمْ زَوَّجْتُ، نَعَمْ قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، لِأَنَّ السُّؤَالَ يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْجَوَابِ مَعَادًا فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} أَيْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: أَلِفُلَانٍ عِنْدَك أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ كَانَ إقْرَارًا صَرِيحًا لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ، وَلَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَبِمِثْلِهِ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي السَّرِقَةِ، مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ التَّزْوِيجُ. (وَيَصِحَّانِ) أَيْ إيجَابُ النِّكَاحِ وَقَبُولُهُ (هَزْلًا وَتَلْجِئَةً) لِحَدِيثِ «ثَلَاثٌ هَزْلُهُنَّ جِدٌّ، وَجِدُّهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا جَازَ». وَقَالَ عُمَرُ: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْبَعٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ. وَيَصِحَّانِ (بِمَا) أَيْ: لَفْظٍ (يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا) الْخَاصَّ (بِكُلِّ لِسَانٍ) أَيْ لُغَةٍ عَرَفَهَا (مِنْ عَاجِزٍ عَنْ) التَّلَفُّظِ بِلِسَانٍ (عَرَبِيٍّ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي لُغَتِهِ نَظِيرُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَعُلِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَصِحَّ بِلَفْظٍ لَا يُؤَدِّي مَعْنَى النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ اللَّفْظِ الْخَاصِّ بِذَلِكَ اللِّسَانِ إلَى غَيْرِهِ مُشْبِهٌ لِمَنْ هُوَ عَرَبِيٌّ وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِهِمَا الْخَاصِّ. (وَلَا) يَصِحُّ النِّكَاحُ مِنْ (قَادِرٍ) عَلَى النُّطْقِ بِإِشَارَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا. (خِلَافًا لِجَمْعٍ) مِنْهُمْ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ وَالتَّبْصِرَةِ؛ فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا، وَالْمَذْهَبُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ الْآخَرِ، أَتَى الَّذِي يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ إيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ بِهَا؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْعَاقِدُ الْآخَرُ يَأْتِي بِمَا هُوَ مِنْ قِبَلِهِ بِلِسَانِهِ (فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ كُلٌّ) مِنْ الْعَاقِدَيْنِ (لِسَانَ الْآخَرِ تَرْجَمَ بَيْنَهُمَا ثِقَةٌ يَعْرِفُ اللِّسَانَيْنِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْقَاضِي: وَلَمْ يُشْتَرَطْ تَعَدُّدُهُ أَيْ الثِّقَةِ الَّذِي يُتَرْجِمُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ- وَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ أَنَّ التَّرْجَمَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ كَالشَّهَادَةِ- فَإِذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمَا فَلَا بُدَّ فِي التَّرْجَمَةِ عِنْدَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ (وَشَرْطُ مَعْرِفَةٍ لِلِّسَانَيْنِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ)، الْمَعْقُودِ بِهِمَا لِيَتَمَكَّنَا مِنْ حَمْلِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى اللَّفْظِ الصَّادِرِ مِنْهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفَاهُ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُمَا الشَّهَادَةُ بِهِ كَمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ (إشَارَةِ أَخْرَسَ) مَفْهُومَةٍ يَفْهَمُهَا الْعَاقِدُ مَعَهُ وَالشَّاهِدَانِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مَعْنَى لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ؛ فَصَحَّ بِإِشَارَتِهِ كَبَيْعِهِ وَطَلَاقِهِ: (وَلَا يَلْزَمُ عَاجِزًا) عَنْهُمَا بِالْعَرَبِيَّة تَعَلُّمُ أَرْكَانِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ، بِخِلَافِ تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ هُنَا الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ. وَلَا (يَصِحُّ) إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ بِكِتَابَةٍ وَلَا إشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ إلَّا مِنْ أَخْرَسَ فَيَصِحَّانِ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ نَصًّا كَبَيْعِهِ وَطَلَاقِهِ؛ وَإِذَا صَحَّا مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ فَبِالْكِتَابَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ. (وَصَحَّ تَرَاخِي قَبُولٍ) عَنْ إيجَابٍ (وَإِنْ طَالَ) الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) مِنْ الْمَجْلِسِ (أَوْ يَتَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا) لِأَنَّ الْمَجْلِسَ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَبِدَلِيلِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ. وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَ الْإِيجَابِ؛ بَطَلَ الْإِيجَابُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَكَذَا لَوْ تَشَاغَلَا بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ إعْرَاضٌ عَنْهُ أَشْبَهَ مَا لَوْ رَدَّهُ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِنْ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُك بِنْتِي مَثَلًا، فَقَالَ الْمُتَزَوِّجُ: قَبِلْت هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أَنْكَحْتُك بِنْتِي: فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتهَا وَنَحْوَهُ؛ صَحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ اخْتَلَفَ؛ فَالْمَعْنَى مُتَّحِدٌ. (وَمَنْ أَوْجَبَ) أَيْ: صَدَرَ مِنْهُ إيجَابُ عَقْدٍ، (وَلَوْ) كَانَ الْإِيجَابُ (فِي غَيْرِ نِكَاحٍ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبُولٍ) لِمَا أَوْجَبَهُ (بَطَلَ) إيجَابُهُ بِذَلِكَ كَبُطْلَانِهِ، بِمَوْتِهِ أَيْ: مَوْتِ مَنْ أَوْجَبَ لَهُ، لِعَدَمِ لُزُومِ الْإِيجَابِ إذَنْ، أَشْبَهَ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ. (وَيَتَّجِهُ وَ) كَذَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ (بِفِسْقِهِ) أَيْ: الْوَلِيِّ الْمُوجِبِ لِلنِّكَاحِ، وَبِحُضُورِ وَلِيٍّ أَقْرَبَ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَلِيِّ إلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَقْدُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا) يَبْطُلُ الْإِيجَابُ (إنْ نَامَ) مَنْ أَوْجَبَ عَقْدًا قَبْلَ قَبُولِهِ إنْ قُبِلَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الْعُقُودَ الْجَائِزَةَ، (وَ) كَانَ (لِنَبِيِّنَا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (التَّزَوُّجُ بِلَفْظِ هِبَةٍ) دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِلَا مَهْرٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الْآيَةَ.